بقلم كريم قطّان

ترجمة ياسمين حاج





قبل عدّة أسابيع وفي عالم يختلف كلّيًّا عن عالم اليوم كنت آخذًا في إعداد كلمة رئيسيّة، تلبيةً لدعوتي إلى إنسبروك في النمسا للحديث عن عملي، وذلك ضمن مؤتمر عن اللغة الفرنسيّة في استخداماتها عبر الحدود. في أعقاب هجوم حماس في ٧ تشرين الأوّل استلمتُ رسالةً من المنظّمين يطلبون فيها منّي مشاركة عنوان كلمتي وكذلك «الامتناع عن ذكر الوضع الحالي والتخلّي عن البعد السياسي في حديثي لتفادي أيّ نوع من الثّوران». كان ردّي بأنّني غير قادرٍ على المشاركة ضمن هذه الظروف وأنّ مهنتي وحياتي برمّتهما على المحكّ ممّا يحدث في بلادي. أصرّت المنظِّمة على الاتّصال بي لتفسّر أنّ «الأوضاع الراهنة» -وهو تعبيرٌ ملطَّف- تبدو شديدة الإرباك والتعقيد بالنسبة لها، بل حتّى قد تكون بمثابة حقل ألغام. ولذا فقد أرادت التأكّد وحسب من أنّ ما سأقوله سيكون ملائمًا. وأضافت: «أدرك أنّك لن تقول أيّ شيء مروّع، لكنّني فقط أردتُ التحقّق من الأمر».ا

أفكّر في المحادثة هذه بعد عدّة أسابيع منذ حدوثها، في ما تعنيه وكيف نُعتَبَر نحن الفلسطينيّون كائنات سياسيّة، تتنفّس وتكتب سياسة. عدم ذهابي إلى حدثٍ أدبيّ هو نتيجة هامشيّة وتافهة لما يحدث في أرض الواقع. لكنّه قد يلمّح إلى إطارٍ أو شكلٍ لا زلت أستصعب تسميته، لخوفي من تحوّله إلى حقيقة – وهو ما يحصل في غزّة وفي الضفّة الغربيّة الآن. ا

«دعنا نجد حلًّا بنّاءً»، اقترحت المنظِّمة عبر الهاتف. لكنّ الارتباك الّذي خلقَتْه لا حلَّ له، فجميع الحلول المحتَمَلة تستوجب صمْتي. فقد كان الحلّ البنّاء الوحيد المطروح أمامي هو ألّا أكونَ أنا؛ أي الذهاب إلى إنسبروك والتظاهر بأنّ بلادي ليست محطَّ قصفٍ وتجويعٍ وتدمير. أي الذهاب والتظاهر بأنّ حياتي لا يقرّرها نظام الفصل العنصري والاستعمار، كما كان الحال دائمًا. وفي جميع الأحوال لم تكن لديّ أدنى فكرة عن كيفيّة الامتثال لطلبِ المنظِّمة حتّى ولو كان بودّي فعل ذلك: لا لأنّ الأمر يمسّني شخصيًّا فحسب، كما يمسّ عائلتي وشعبي، إنما لأنّ أحداث الرواية التي كنت سأناقشها تدورُ في فلسطين. ا

بعد بضعة أيّام علمتُ كذلك أنّ «ليتپروم» ألغت حفل توزيع الجوائز الذي كان سيحتفي برواية عدنيّة شبلي بعنوان «تفصيل ثانوي» والذي كان من المفترض أن ينعقد ضمن «معرض فرانكفورت الدولي للكتاب». على الرغم من الإدانة التي سارعَتْ بإصدارها المجتمعات الأدبيّة حول العالم -وتجدُر بنا الإشارة إلى التضامنِ حيثما أُبدِي- استوعِبَت الفكرة لدى الجميع: التفكير والكتابة والعيش الفلسطيني محمولٌ أحيانًا لكنّه لم يكن أبدًا مرحّبًا به. ا


كنّا نعلم مدى سنين أنّ إنسانيّتنا نحن الفلسطينيات والفلسطينيين مشروطة في عيون العالم -وأنها حتّى عندما تُمنح فلا يُعتَرَف بها بصورة كاملة. فنحن نُمنَح هذا الامتياز بين الفينة والأخرى، عندما نكون مهذّبين ومتحفّظين، شبه غير مرئيّين. ا

في الأسابيع التي تلَت محادثة الهاتف تلك، كان العالم قد تحرّك نحو حالة تَصعُب عليّ تسميتها. وقد اتّضحت معالم تلك الحالة أكثر وأكثر خلال نهاية الأسبوع فيما تفرّج الغرب برضًى مبطّن بعض الشيء على عزلِ غزّة عن سائر أنحاء العالم مع بدء إسرائيل غزوِها البرّيّ. تُفرِغ النقاشات المستمرّة والميكانيكيّة بخصوص ضرورة فتح «ممرّ إنساني» كلمة إنساني ذاتها من مكوّنها الإنسانيّ؛ فهي تُناقَش كما تُناقَش نجاة «الحيوانات البشريّة». ا


أظهرت معظم الحكومات الغربيّة تضامنها القاطع مع إسرائيل. تعاني غزّة من عقاب جماعيّ ساديّ على نطاقٍ لم نشهده من قبل. ومع ذلك سافر الرئيس بايدن ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إسرائيل محمَّلين بعبارات الدّعم والامتنان الأبدي ووعود بالتمويل؛ مادّين لها مصافحاتهم الرصينة والعناق الرجوليّ، بدون ذكر أيّ كلمة عن المجازر المرتكبة في غزّة. إنّ صمت حكومات الغرب المقلِق انصياعٌ شرّير للظّلم الإسرائيلي. في فرنسا حيث أقيم وأعمل نرى حالة مجفلة بصورة خاصّة. فقد أمر وزير الداخليّة جيرالد دارمانان جميع حكّام المحافظات في الدولة بحظرِ المظاهرات المناصِرة لفلسطين، وذلك تخوّفًا من وقوع اضطراب عام على حدّ قوله. لكن على الرغم من أنّ مجلس شورى الدّولة ألغى الحظر الشامل على المظاهرات، تمسّكت محافظات كثيرة بالحظر ذاك، متعلّلةً بأوهى الذرائع في كثير من الأحيان. ويمكننا هنا تحليل المفارقة الكامنة في حظرِ الدول الأوروبيّة -معاقل حرّيّة التعبير وفق ادّعائها- الاحتجاجات وفي إلغائها لمراسم توزيع الجوائز وفي طلبها مراجعة الملاحظات المُعدَّة مسبقًا لكاتبٍ ما؛ لكنّ تحليل تلك المفارقة ليس بيتَ قصيدنا. ا


يزدري من يُفتَرَض بهم أن يكونوا وسطاءَ لإحلال السلام الوقف الفوريّ للعدوان. وهو في الواقع ما يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لارتكاب أعمالها، مع إفلات تامّ من العقاب، فتؤزّم أزمة إنسانيّة غير مسبوقة تشكّلت تحت سبعة عشر عامًا من الحصار وعدّة هجمات عسكريّة كبيرة. ا

هذه اللامبالاة الفاسقة ونزع الإنسانيّة عنّا هو ما يجبرُنا على توثيق ووصف كلّ شيء، كبيرًا كان أم صغيرًا، للتأكّد من أنّ الناس تدرك ما هو على المحكّ: نودّ أن نقول «لكنّ هذا كان طفلًا» و«هذا بالغًا». ولم يكن عليه موت الميتة الشنيعة في مدينة مدمّرة بالكامل. كان يجب أن يكبر ويترعرع بجانب البحر، ولعلّه كان سيكون سبّاحًا ماهرًا وراسبًا في الرياضيات أو كان سيكبر ليحبّ السيّارات أو الطّبخ. ونريد أن نقول «كان هذا مبنًى سكنيًّا، وهذا مطعمًا على شاطئ البحر، وهذا بيتًا وحديقته، حيث لعب أحدهم وتشاجر مع أحدهم في المطبخ، وكلّ هذا ذهب بلا عودة». نريد أن نقول إنّ لهؤلاء النّاس أسماء ووجوه وحياة وأصدقاء ينعونهم، ذلك إن تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة؛ وهذه هنا مدن، مدن كاملة، برمّتها. مدن وبلدات حقيقيّة، كانت في الأمس مدنهم وبلداتهم، قد أصبحت الآن مقابر. وفي هذه الأثناء يبرّر الخبراء على التلفزيون وقوع آلاف الموتى بصفتهم أضرارًا جانبيّة – لكنّنا نريد أن نقول إنّ هذا هو محض نشوانٍ، نشوان محوِ شاطئِ بحرٍ وعائلاتٍ وتاريخٍ وقصصٍ ومدنٍ. ا

في الإعلام نرى غزّة تُصوَّرُ تجريدًا، مساحةً مُصمَّمةً لموتٍ عنيفٍ للشعب المُجرَّد الذي يقطنها. ويُصوَّر الموت هذا آتٍ على يد قوّة طبيعيّة مجرّدة، غير شخصيّة – لا أكثرَ جيوش العالم قوّةً بدعم أقوى دولة في العالم، بحكومةٍ وشعب ينتخب تلك الحكومة. إنّ التأطير هذا مريح، تأطيرٌ يعفي إسرائيل من الذنب. فالتدمير يأتي من فوق، والموتى قُدِّر لهم الموت وحسب. وتجري الرياح بما تشتهي السفن. لكن نقدّم هنا تصحيحًا: غزّة ليست تجريدًا. فهي الساحل والشواطئ والشوارع والمدن بأسماءٍ زهورٍ وفاكهة، ليست غزّة تجريدًا إنّما أماكن وحيوات وأناس يُقصَفون إلى غياهب النسيان. ا


نحن الفلسطينيون نقف عند عتبة الإنسانيّة. نُدعى لدخولها أحيانًا لا دائمًا. أراجع مرارًا وتكرارًا المكالمة الهاتفيّة تلك، صوتًا عبر الهاتف، يفد من أرض الإنسانيّة البعيدة والنّائية، حيث أنا ضيفٌ حتّى يثبت عكسَ ذلك. ما فتئ الصوت اللطيف المعزّي المتفهّم يكرّر: «أرجوكَ كريم، دعنا نجد حلًّا بنّاءً». لم ترفض المنظِّمة إنسانيّتي بالضّبط، لكنّ حقيقة كوني إنسان كانت حقيقة مزعجة؛ كان عليها التصارع مع الفكرة ولم ترتَح لها. اقترحت أن نتحدّث في أمورٍ مثل «المنفى والذاكرة وتوارث القصص والحدود» لكن رجاءً، بدون ذكرِ فلسطين. تساءلتُ كيف كنت سأتمكّن من الحديث عن المنفى بدون ذكرِ السبب المادّي لذلك المنفى، أي تاريخٌ كاملٌ من الاحتلال. تساءلتُ عمّا تحويه «الذاكرة» في هذا السياق إن لم تكن النجاة رغمًا عن حملةٍ منسّقة لمحوِ تاريخنا برمّته على مدى قرن من الزمان. تساءلتُ كذلك إن كانت تتصوّر أنّ الحديث عن الموضوعات الكئيبة يمتِعُني. صدّقيني، أفضّل الكلام عن أيّ شيءٍ آخر إن أمكنني ذلك، لكنّ ذلك غير ممكن. ا

ما كانت تطالبني به هو تحويل كلّ تعقيد كامن في كينونتي السياسيّة والحميمة إلى أمر سائغ وغير مؤذٍ، وألّا أحمّلها مسؤوليّتي. تلك هي التناقضات التي علينا بصفتنا فلسطينيات وفلسطينيين حلّها في دواخلنا: أن نكون موجودين بدون التطرّق إلى سبب وجودنا. كانت تتمنّى نوعًا ما أن أتمكّن من التوقّف عن الوجود بكلّ لباقة. ما الذي كان عليّ النطق به إذًا في إنسبروك إن لم يكن التوقيع على صكّ اختفائي أنا؟ واليوم أفهم ما شعرتُ به عندما تحدّثنا حينها. فهمتُ ظلَّ الأمور التي لم أرِد تسميَتها حينئذٍ. لم أكن غاضبًا ولا حزينًا ولا ساخطًا، بل كنتُ يائسًا. استمرّيتُ بالحديث. لم أستطع إغلاق الخطّ. لم أستطع أن أقول «لا لن آتي» وقطع الاتّصال. كنت في حاجة إلى اعتراف ذلك الصّوت الهاتفيّ بإنسانيّتي. كنت مقتنعًا لبضعة دقائق أنّني لو أنهيتُ المكالمة بدون الحصول على ذلك الاعتراف منها، بدون إقرارها بوجودي، سأتلاشى. ا


أمّا الحقائق فهي كالتّالي: ما من ماء ولا وقود ولا كهرباء. حذّرت «أوكسفام» بأنّ النقص في المياه وانهيار خدمات المرافق الصحية ستؤدّي إلى تفشّي الكوليرا والأمراض المعدية. تُقصَف المستشفيات والمنازل والمدارس والمساجد والكنائس بصورة عشوائيّة (وهي كلمة قاسية أكره استخدامها، فما هو القصف إن لم يكن عشوائيًّا؟). بينما أكتب هذا تُغرَق غزّة في الظلام، وتُقطَع جميع الاتصالات مع العالم الخارجي عنها. في البثّ المباشر لمواقع التواصل الاجتماعي وفي الصور نرى الانفجارات تُنير أفق المدينة. لقد أصبحت غزّة مكانًا مُصمّمًا للموت فعلًا. ونحنُ –مِن فلسطينيات وفلسطينيين ومِن متمسِّكات ومتمسّكين بمبدأ الإنسانيّة حول العالم– نتساءل: ما هو الرّعب الذي سيُعتبر مُرعبًا بما فيه الكفاية لاجتياز العتبة فيصبح رعبًا عالميًّا؟

يبدو أنّه لا يوجد ما يكفي من الرعب لإلحاقه بالفلسطينيين لتحفيز المجتمع الدولي على طلب وقف العدوان بصورة قاطعة. كان الصوت على الهاتف مثله مثل غالبيّة العالم حولنا، يطلب نفس الشيء: «رجاءً، دعنا نجد حلًّا بنّاءً». لو كان بإمكانك فقط التّلاشي – أو دعكَ من التلاشي – يا ليتك لم تكن موجودًا أصلًا، يا ليتك أعفَيْتَنا من مهمّة إطلاق عنان الرّعب والترحيل والقصف والقتل والتجويع ضدّك. تردّد صدى العالم نفسَه في هذا الصوت عبر الهاتف، قائلًا لي: ثمّة حلّ، لو أنّك لم تكن متعنّتًا إلى ذلك الحدّ، لا بدّ من وجود حلّ، ألا وهو التّلاشي ضمن التناقضات المُنزَلة عليك، يا ليتك قادرٌ على فضّ دعوتِكَ إلى العالم بنفسك، يا ليتك لم تعقّد العالمَ بوجودك فيه، يا ليتني لا أُجبَر على التحدّث معك، يا ليتني لم أضطرّ إلى الاستماع إليك، يا ليت. ا


نُشر هذا النص باللغة الإنجليزية في «ذا بافلر» بتاريخ ٣١ أكتوبر ٢٠٢٣، ويمكنك قراءته من خلال هذا الرابط. بدعوة من كو-ليكتيف، قامت ياسمين حاج بترجمته عن الإنكليزيّة. اب



كريم قطّان، كاتب فلسطيني مولود في القدس. تشمل كتاباته باللغة الفرنسية رواية بعنوان «قصر‌‌ الجبلين» التي تصدر عن «منشورات إليزاد» في تونس. نُشرت أعماله بالإن‍‍ك‍‍ليزية في «ذا ‌‌پ‍‍اريس‌‌ ‌‌ري‍‍ڤ‍‍يو‍‍» ‌‌و«ماغازين‌‌ أوف ‌‌فانتاسي أند ساينس فيكشن»‌‌ و«سترينج‌‌ هورايزون» ‌‌و‍‍«مجلة ‌‌٩٧٢‌‌+‌‌» ‌‌و«ذا‌‌ ‌‌ف‍‍ونامب‍‍وليست»‌‌ ‌‌وغيرها‌‌.‌ا



 🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence: ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories ✦ 🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction ✦ 🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists
🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence:  ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction  ✦  🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists  ✦