حوار بين هدى ذكري وعمرو عامر
النص التالي يحتوي على مقتطفات من حوار ممتد حول تقييم ممارساتنا التعليمية لمحاولة فهم نقاط ضعفها. نبدأ بتصور مبسط لنموذج لبرنامج تعليمي معني بالفنون المعاصرة، من خلال تجارب صادفناها أو عملنا عليها. ونحاول من خلاله تحديد: مما تتكون هذه البرامج؟ ما هي أهدافها وكيف تتحرك نحوها؟ وكيف يمكن الإقرار بنجاحها أو فشلها في مساعيها؟ ونبدأ من خلال هذا النموذج تفكيك بعض النقاط التي نراها إشكالية في فكرة البرنامج التعليمي البديل. ونحاول طرح مقترحات مبدأية لتصورات يُمكننا من خلالها تخطي هذا الهيكل الضيق، لصالح مساحة أكثر براحًا وشكل أكثر مرونة يتيح نقل وتبادل المعارف التي نحتاج إليها فعليًا.ا
سأبدأ هنا من موقع النسق التعليمي الذي نناقشه، وهو يقع خارج الأكاديمية الفنية ويتعامل مع ممارسات فنية معاصرة. على اختلاف أشكاله، أتصور أنه من الممكن تبسيط شكل البرنامج. يقام البرنامج على مدار مدة محددة من الزمن يتفرغ فيها المشارك، ويتعرض بشكل مكثف لمجموعة من المعارف من المفترض أنها مُصممة بناء على احتياجاته. والهدف منه أن يصبح أكثر قدرة على مواجهة متطلبات المشهد الفني. ويظهر موقعه «البديل» من خلال مجموعة من الاختيارات، والتي قد تعكس موقفه من التعليم الرسمي. يظهر هذا سواء في التوجه نحو شكل ممارسة معاصرة أو خلق بيئة تعلُّم تعتمد على المشاركة والنقاش لمحاولة تفادي الشكل الكلاسيكي للمحاضرة. ويمكننا بسهولة نسبية تتبع المشاكل التي تظهر في هذا النمط، مثل فخ إعادة إنتاج الأنماط التعليمية الرسمية مع اختلاف المحتوى، أو الضغط الناتج عن ضرورة خروج منتج نهائي يلخص التجربة. وأخيرًا، فقدان التواصل بين منظمي البرنامج والمشاركين الذي يؤدي إلى غياب أي هدف مشترك، فيتحول البرنامج لمهمة طويلة يحاول كل طرف أن يحقق منها أي استفادة.ا
هدى: أريد أن نبدأ بكلمات مفتاحية تساعدنا على مناقشة البرامج التعليمية وما تنتجه. ما هي النقطة التي يُمكن أن نبدأ منها فهم هذه الممارسة؟
عمرو: للتبسيط أعتقد أنه يُمكن تلخيص البرنامج لشكل وهدف وموقع ونتائج. سنسلم ان السمة الشكلية العامة في معظم البرامج هي اقتطاع وقت من الزمن ومحاولة تحقيق شكل من أشكال التفرغ والتكثيف. النقطة التالية بالنسبة لي ستكون مسائلة أهداف هذه البرامج وكيف تسعى لتحقيقها.ا
عمرو: بالنسبة للأهداف قصيرة المدى، تعتمد عملية التكثيف في أغلب الوقت على انتهاء البرنامج بمنتج ما، على اختلاف أشكاله. وهذا الارتباط يجعل المنتج مراقب، مما يجعل العملية كلها مراقبة. لأن هذا المنتج -المرتبط بالضرورة بمتطلبات مصادر الدعم- يعيدنا لإشكالية التعليم النظامي وعلاقته بالامتحان. ما الذي يثبته الامتحان فعلًا؟ ويتحول السؤال هنا: لماذا نحتاج إلى المنتج النهائي؟ الإجابة الأبسط هي لقياس مدى استفادة المشاركين. لكن لو افترضنا أننا نستطيع قياس الاستفادة بهذه الطريقة، لماذا نحتاج أصلًا لإثبات هذه الاستفادة للعالم؟ وماذا يحدُث لو لم تتحقق هذه الاستفادة على نحو قابل للقياس؟ أعتقد أننا نتحرك هنا في منطقة تقترب من التسليع. وأرى أن اعتبار التعليم عملية تغيير اجتماعي يتناقض بشكل ما مع طرح البرنامج كسلعة تقدم نتائج مضمونة، أو طرح المستفيدين منه كسلعة تستطيع تأدية دور الفنان الواعد. ا
هذه التناقضات تكاد تشكك في العملية بأكملها. وهذا ما أواجهه بشكل شخصي ولا أرى له حل مباشر. فربما تكون بداية الحل هي إعادة النظر في مفهومنا عن المنتج النهائي. لكن حتى اللجوء إلى عرض التجارب في مراحلها المختلفة قد يتحول لشكل أدائي لا معنى له. لكن ربما الاستمرار في طرح سؤال الجدوى الحقيقية سيتيح للبرنامج مساحة للتقييم الصادق لتأثيره بعيدًا عن طريقة تقديمه. ا
هدى: كما أن مسألة المنتج النهائي تضعنا في مواجهة مباشرة مع عامل الوقت. فالبرنامج المحدود بإطار زمني يلغي فكرة الوقت الذي قد تحتاجه لاستيعاب ما تلقيته من معارف والتفاعل معها بالطريقة المناسبة. ا
عمرو: طبعًا. وهو يعيدني أيضًا لنقد التعليم القائم على الامتحان، فالنجاح في الإمتحان لا يعني شيئًا على المدى الطويل بالضرورة. والنقطة الثانية هي الأهداف طويلة المدى والخطاب الذي نستخدمه لطرحها.ا
أرى تناقض كبير في طرحنا للبرنامج التعليمي لإحداث تغيير ما في المشهد الفني، بينما تسعى ممارستنا العملية ضمنيًا إلى تخطي المشهد الفني المحلي بالكامل. فلو كان الهدف هو دفع المشاركين نحو السياق العالمي للفن، فما الداعي لاستخدام خطاب تطوير المشهد الفني المحلي؟ يصبح الخطاب هنا موجه لجهات الدعم أكثر منه للمشاركين أو للمشهد الفني المحلي. وبالتالي تتغير أهداف البرنامج من تلبية احتياجات الفنان إلى تحقيق متطلبات المؤسسات. وسؤالي هنا، هل يمكن أن تقوم البرامج التعليمية على متطلبات المؤسسة من الفنان فقط؟ ربما. لكن أعتقد أن إمكانات التعليم البديل يجب أن تطمح لأكثر من تحقيق استفادة فردية لمجموعة محدودة من الأشخاص. ا
هدى: هناك علاقة بين تناقض هذا الخطاب وبين طرح البرنامج التعليمي الذي تم تصميمه بناء على دراسة احتياجات المشاركين. وهي نقطة شديدة الصعوبة في رأيي، لأنه هناك مشاكل شديدة الوضوح والبداهة، أحيانًا يوحي ذكرها أن هناك بحث وإدراك للمشكلة وتحرك نحو استكشافها. بينما الحقيقة ليست كذلك، مما يعطي انطباع عام بأن الكلام مكرر، دون أي مردود على أرض الواقع.ا
عمرو: بوجود أهداف ومحركات حقيقية للممارسة التعليمية، يختفي التكرار بشكل تلقائي. لأن الطرح عادة ما يكون عام جدًا ويكون التحرك على أساسه بلا هدف واضح. وتؤكد البداهة هنا على عدم وجود إدراك كامل بالمشاكل التي نواجهها، وهو أمر يشترك فيه المنظمون والمشاركون. فعندما أصمم برنامج دافعه الأساسي أن هناك ضعف ما في إنتاج الفنانين يجب أن أسأل نفسي: هل هذا هو الهدف من عملية التعليم؟ وأتصور أنني لو اتخذت موقف مختلف من التعليم، واعتبرت أنه يمكن أن يطور الوعي بدلًا من المنتج، من الممكن أن أحقق الاثنين معًا.ا
هدى: يأخذنا هذا للسؤال التالي، وهو سؤال الموقع/الموقف. هناك الكثير من النقاشات حول تسميات مثل البديل والموازي، هل تعتقد أن هذه المصطلحات ضرورية؟ وهل من الضروري الإفصاح عنها وتبنيها؟ هل نكتفي بتحديد هذه المواقع بشكل ضمني من خلال مجموعة الاختيارات التي يتخذها كل برنامج؟
عمرو: في رأيي، لا يُمكن فصل الموقع والموقف عن الهدف. أهمية التفكير في موقعنا ومواقفنا تكمن في الاعتقاد بأن عملية التعليم لديها إمكانية لتخطي الأهداف قصيرة المدى. فالهدف هو طريقة تعبيري عن موقفي من الأشياء. فلو كان موقفي مضاد مثلًا للتراتبية الهرمية (الهيراركية) في التعليم، بناء عليه أحاول خلق شكل تعليمي غير هرمي، وهو ما أصمم على أساسه البرنامج، وما أقيس عليه مدى نجاح التجربة.ا
هدى: ألا ترى أن هناك فرق بين موقفين: الاعتراض على الشكل السلطوي للتعليم أو الاعتراض على اعتماد الكليات على المناهج الأجنبية، على الناحية الاخرى مواجهة المؤسسة التعليمية المصرية أو مؤسسات ثقافية أجنبية. أقصد أن هناك فرق بين مواقف لها علاقة بالممارسات ومواقف تكاد تكون سياسية. ا
عمرو: في رأيي، هما وجهان لعملة واحدة. أؤمن بشكل عام أنه لا يُمكن فصل أي هدف متعلق بممارسة تعليمية عن موقفي من الواقع ككل وليس موقفي من المشهد الفني فقط.. وأرى أن مجرد احتكاكي بهذه المسألة يضعني بالضرورة في جدل سياسي ونقاشات متعلقة برؤيتي لدور الفنان في المجتمع. فعملية التعليم هي عملية سياسية بطبيعتها. وجزء من مشكلة تجهيز هذه البرامج هو رؤية الأمور بعدسة ضيقة لا ترى عملية التعليم بصفتها ممارسة اجتماعية تركز بشكل أساسي على الفن. ا
عمرو: أعتقد أن عدم وجود هذا التصور الواضح لا ينتج عملية تعليمية في كثير من الأحيان بقدر ما ينتج صورة لعملية تعليمية. وأننا نتجاهل في سبيل إنتاجها إمكانات التعليم على أن يحدث تغيير حقيقي. ننتج صورة تحقق تناقض سطحي مع ما نراه من مشكلات في نظام التعليم الرسمي، لكنها في جوهرها لا تختلف عنه كثيرًا. بمعنى أنه لو اختلف ما نقدمه من منهج مع ما تقدمه الأكاديمية المصرية فإنه مازال يشبه ما يقدم في أكاديميات أخرى (بل وربما هو نسخ أقل جودة منها). فلو اُفتتحت أكاديمية للفنون المعاصرة وقدمت منهج مختلف، فإن هذا لا يعني أنها تطرح نقد لعملية التعليم الرسمي بأي شكل من الأشكال. مما يعيدني لسؤال الهدف مما ننتجه من برامج. ويعيدني أيضًا للتفكير في فقاعة المشكلة –أو ما نتصور أنه أصل المشكلة– وننهمك في محاولة حلها، بينما الحقيقة أعقد من ذلك.ا
عمرو: المعادلة الأصعب ستتحقق إذا تمكَّن منظمي البرنامج من تسليط الضوء على الدافع الحقيقي وتوجيهه، ومحاولة الدفع نحو استدامة هذا الشكل الجماعي من تبادل المعرفة. عندها فقط ستتحرك العملية بشكل تلقائي ونتخطى التلقي السلبي، أو مشكلات التنظيم المتعلقة بعدم إدراك الاحتياجات الحقيقية للمشاركين. لننتقل من مجرد المعرفة بتاريخ الفن العالمي ومحاولات مجاراته، نحو إنتاج خطاب خاص بنا. وأعني هنا أن نعمل على إنتاج صوتنا الخاص، صوت لا يتجاهل سياقنا وتاريخنا وواقعنا ولا ينتسب لقضايا «عالمية» دون دافع أصيل. وأن نطور سويًا الحساسية التي تتيح لنا اختيار ما يعنينا من قضايا بناء على نقد واحتكاك حقيقي بواقعنا.ا
هدى: على ذكر صوتنا الخاص وتطوير فهم لخصوصية الواقع المحيط بنا، هناك جزء يتعلق بإدراك احتياجات المشاركين والسياق المحلي. ومن بينها الشعور الجمعي بعدم الجدوى، أو غياب الثقة التي تتيح مساحة للفرد لمشاركة أفكاره، أو غياب الثقة في الآخر التي تفتح مجالًا للتعاون. فإن إدراك هذا النوع من مشكلات التواصل من شأنه أن يطرح حلول مختلفة. وأعتبر هذا من أهم العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التفكير في إنشاء مساحات تعليمية أو أي مساحة للتبادل. ا
عمرو: إن عملية التعلم لا يمكن أن تتوقف عند المادة العلمية، لكونها تتطلب شكل كبير من أشكال التواصل، خاصة في السياقات التي نتعامل من خلالها. أعتبر إنشاء مجتمعات فكرة ضرورية، ولا يُمكن إنشائها دون تحقيق تواصل بين أفرادها. ا
عمرو: أرى أنه من الممكن أيضًا إعادة النظر في العلاقات التي تنشأ في السياق التعليمي ومحاولة التغيير فيها. فبدلًا من التمسك بأدوار ثابتة للمشارك والمُحاضِر، يُمكننا أن نكون علاقات أكثر تشعبًا قد تحقق أشكال متنوعة من التبادل. ليس لدي تصور واضح تمامًا، لكن أعتقد أن البداية قد تكون في تحديد هدف مشترك، ومن ثم تكوين مجموعات صغيرة من الأفراد. لا يهم أن تتفق هذه المجموعة على كل شيء، باستثناء الرغبة في خلق دوائر تتحرك بدافع ذاتي نحو التعلم. من الممكن تخيل دوائر من أجيال وممارسات مختلفة تسعى كل منها لتكوين معارف نابعة من احتياج حقيقي. يمكن تخيل أن هذه الدوائر تتقاطع بلا شك، وأن هذا التقاطع سيخلق علاقات مركبة ويتيح تبادل من نوع مختلف. ا
هدى: أتخيل أنه من الممكن أن نتعامل مع عملية التعلُّم الجماعي كجزء أساسي من ممارستنا الفنية. فاذا اعتبرنا أننا مضطرون في كل الأحوال لإنتاج تراكم معرفي إذا أردنا الاستمرار، فيمكننا تخيل شكل جماعي من هذه العملية. على أن نوليه نفس القدر من الاهتمام والالتزام الذي نعطيه لعمليات الإنتاج والبحث عن دعم، دون الاضطرار لإثبات جدواها بشكل مستمر عن طريق إخراج منتج. أفكر هنا في نموذج مثل "الستادي (الدراسة)" الذي يطرحه فريد موتين وستيفانو هارني، وإمكانية تطوير ممارسة تعليمية يجتمع فيها الأفراد ويقررون ما عليهم تعلُّمه. ا
عمرو: أعتقد أن هذا ممكن طبعًا، وممكن ألا نحصر تفكيرنا في المساحة. فالقهوة شأنها شأن الجامعة في غير ساعات الدراسة، تصلح لأن تكون مساحة مناسبة للتعليم والتعلُّم إذا أردنا ذلك. وهو ما يعيدني لما كنت أتخيله عن شكل الدوائر والمجتمعات القائمة على نقل وتبادل المعرفة. لكن يبقى سؤال كيفية تحقيق هذا التصور قائم. بالنسبة لي أعتقد أن كل ما سنطرحه يعود لمناقشة الدافع. ا
هدى: أريد أن نبدأ بكلمات مفتاحية تساعدنا على مناقشة البرامج التعليمية وما تنتجه. ما هي النقطة التي يُمكن أن نبدأ منها فهم هذه الممارسة؟
عمرو: للتبسيط أعتقد أنه يُمكن تلخيص البرنامج لشكل وهدف وموقع ونتائج. سنسلم ان السمة الشكلية العامة في معظم البرامج هي اقتطاع وقت من الزمن ومحاولة تحقيق شكل من أشكال التفرغ والتكثيف. النقطة التالية بالنسبة لي ستكون مسائلة أهداف هذه البرامج وكيف تسعى لتحقيقها.ا
عمرو: بالنسبة للأهداف قصيرة المدى، تعتمد عملية التكثيف في أغلب الوقت على انتهاء البرنامج بمنتج ما، على اختلاف أشكاله. وهذا الارتباط يجعل المنتج مراقب، مما يجعل العملية كلها مراقبة. لأن هذا المنتج -المرتبط بالضرورة بمتطلبات مصادر الدعم- يعيدنا لإشكالية التعليم النظامي وعلاقته بالامتحان. ما الذي يثبته الامتحان فعلًا؟ ويتحول السؤال هنا: لماذا نحتاج إلى المنتج النهائي؟ الإجابة الأبسط هي لقياس مدى استفادة المشاركين. لكن لو افترضنا أننا نستطيع قياس الاستفادة بهذه الطريقة، لماذا نحتاج أصلًا لإثبات هذه الاستفادة للعالم؟ وماذا يحدُث لو لم تتحقق هذه الاستفادة على نحو قابل للقياس؟ أعتقد أننا نتحرك هنا في منطقة تقترب من التسليع. وأرى أن اعتبار التعليم عملية تغيير اجتماعي يتناقض بشكل ما مع طرح البرنامج كسلعة تقدم نتائج مضمونة، أو طرح المستفيدين منه كسلعة تستطيع تأدية دور الفنان الواعد. ا
هذه التناقضات تكاد تشكك في العملية بأكملها. وهذا ما أواجهه بشكل شخصي ولا أرى له حل مباشر. فربما تكون بداية الحل هي إعادة النظر في مفهومنا عن المنتج النهائي. لكن حتى اللجوء إلى عرض التجارب في مراحلها المختلفة قد يتحول لشكل أدائي لا معنى له. لكن ربما الاستمرار في طرح سؤال الجدوى الحقيقية سيتيح للبرنامج مساحة للتقييم الصادق لتأثيره بعيدًا عن طريقة تقديمه. ا
هدى: كما أن مسألة المنتج النهائي تضعنا في مواجهة مباشرة مع عامل الوقت. فالبرنامج المحدود بإطار زمني يلغي فكرة الوقت الذي قد تحتاجه لاستيعاب ما تلقيته من معارف والتفاعل معها بالطريقة المناسبة. ا
عمرو: طبعًا. وهو يعيدني أيضًا لنقد التعليم القائم على الامتحان، فالنجاح في الإمتحان لا يعني شيئًا على المدى الطويل بالضرورة. والنقطة الثانية هي الأهداف طويلة المدى والخطاب الذي نستخدمه لطرحها.ا
أرى تناقض كبير في طرحنا للبرنامج التعليمي لإحداث تغيير ما في المشهد الفني، بينما تسعى ممارستنا العملية ضمنيًا إلى تخطي المشهد الفني المحلي بالكامل. فلو كان الهدف هو دفع المشاركين نحو السياق العالمي للفن، فما الداعي لاستخدام خطاب تطوير المشهد الفني المحلي؟ يصبح الخطاب هنا موجه لجهات الدعم أكثر منه للمشاركين أو للمشهد الفني المحلي. وبالتالي تتغير أهداف البرنامج من تلبية احتياجات الفنان إلى تحقيق متطلبات المؤسسات. وسؤالي هنا، هل يمكن أن تقوم البرامج التعليمية على متطلبات المؤسسة من الفنان فقط؟ ربما. لكن أعتقد أن إمكانات التعليم البديل يجب أن تطمح لأكثر من تحقيق استفادة فردية لمجموعة محدودة من الأشخاص. ا
هدى: هناك علاقة بين تناقض هذا الخطاب وبين طرح البرنامج التعليمي الذي تم تصميمه بناء على دراسة احتياجات المشاركين. وهي نقطة شديدة الصعوبة في رأيي، لأنه هناك مشاكل شديدة الوضوح والبداهة، أحيانًا يوحي ذكرها أن هناك بحث وإدراك للمشكلة وتحرك نحو استكشافها. بينما الحقيقة ليست كذلك، مما يعطي انطباع عام بأن الكلام مكرر، دون أي مردود على أرض الواقع.ا
عمرو: بوجود أهداف ومحركات حقيقية للممارسة التعليمية، يختفي التكرار بشكل تلقائي. لأن الطرح عادة ما يكون عام جدًا ويكون التحرك على أساسه بلا هدف واضح. وتؤكد البداهة هنا على عدم وجود إدراك كامل بالمشاكل التي نواجهها، وهو أمر يشترك فيه المنظمون والمشاركون. فعندما أصمم برنامج دافعه الأساسي أن هناك ضعف ما في إنتاج الفنانين يجب أن أسأل نفسي: هل هذا هو الهدف من عملية التعليم؟ وأتصور أنني لو اتخذت موقف مختلف من التعليم، واعتبرت أنه يمكن أن يطور الوعي بدلًا من المنتج، من الممكن أن أحقق الاثنين معًا.ا
هدى: يأخذنا هذا للسؤال التالي، وهو سؤال الموقع/الموقف. هناك الكثير من النقاشات حول تسميات مثل البديل والموازي، هل تعتقد أن هذه المصطلحات ضرورية؟ وهل من الضروري الإفصاح عنها وتبنيها؟ هل نكتفي بتحديد هذه المواقع بشكل ضمني من خلال مجموعة الاختيارات التي يتخذها كل برنامج؟
عمرو: في رأيي، لا يُمكن فصل الموقع والموقف عن الهدف. أهمية التفكير في موقعنا ومواقفنا تكمن في الاعتقاد بأن عملية التعليم لديها إمكانية لتخطي الأهداف قصيرة المدى. فالهدف هو طريقة تعبيري عن موقفي من الأشياء. فلو كان موقفي مضاد مثلًا للتراتبية الهرمية (الهيراركية) في التعليم، بناء عليه أحاول خلق شكل تعليمي غير هرمي، وهو ما أصمم على أساسه البرنامج، وما أقيس عليه مدى نجاح التجربة.ا
هدى: ألا ترى أن هناك فرق بين موقفين: الاعتراض على الشكل السلطوي للتعليم أو الاعتراض على اعتماد الكليات على المناهج الأجنبية، على الناحية الاخرى مواجهة المؤسسة التعليمية المصرية أو مؤسسات ثقافية أجنبية. أقصد أن هناك فرق بين مواقف لها علاقة بالممارسات ومواقف تكاد تكون سياسية. ا
عمرو: في رأيي، هما وجهان لعملة واحدة. أؤمن بشكل عام أنه لا يُمكن فصل أي هدف متعلق بممارسة تعليمية عن موقفي من الواقع ككل وليس موقفي من المشهد الفني فقط.. وأرى أن مجرد احتكاكي بهذه المسألة يضعني بالضرورة في جدل سياسي ونقاشات متعلقة برؤيتي لدور الفنان في المجتمع. فعملية التعليم هي عملية سياسية بطبيعتها. وجزء من مشكلة تجهيز هذه البرامج هو رؤية الأمور بعدسة ضيقة لا ترى عملية التعليم بصفتها ممارسة اجتماعية تركز بشكل أساسي على الفن. ا
عمرو: أعتقد أن عدم وجود هذا التصور الواضح لا ينتج عملية تعليمية في كثير من الأحيان بقدر ما ينتج صورة لعملية تعليمية. وأننا نتجاهل في سبيل إنتاجها إمكانات التعليم على أن يحدث تغيير حقيقي. ننتج صورة تحقق تناقض سطحي مع ما نراه من مشكلات في نظام التعليم الرسمي، لكنها في جوهرها لا تختلف عنه كثيرًا. بمعنى أنه لو اختلف ما نقدمه من منهج مع ما تقدمه الأكاديمية المصرية فإنه مازال يشبه ما يقدم في أكاديميات أخرى (بل وربما هو نسخ أقل جودة منها). فلو اُفتتحت أكاديمية للفنون المعاصرة وقدمت منهج مختلف، فإن هذا لا يعني أنها تطرح نقد لعملية التعليم الرسمي بأي شكل من الأشكال. مما يعيدني لسؤال الهدف مما ننتجه من برامج. ويعيدني أيضًا للتفكير في فقاعة المشكلة –أو ما نتصور أنه أصل المشكلة– وننهمك في محاولة حلها، بينما الحقيقة أعقد من ذلك.ا
عمرو: المعادلة الأصعب ستتحقق إذا تمكَّن منظمي البرنامج من تسليط الضوء على الدافع الحقيقي وتوجيهه، ومحاولة الدفع نحو استدامة هذا الشكل الجماعي من تبادل المعرفة. عندها فقط ستتحرك العملية بشكل تلقائي ونتخطى التلقي السلبي، أو مشكلات التنظيم المتعلقة بعدم إدراك الاحتياجات الحقيقية للمشاركين. لننتقل من مجرد المعرفة بتاريخ الفن العالمي ومحاولات مجاراته، نحو إنتاج خطاب خاص بنا. وأعني هنا أن نعمل على إنتاج صوتنا الخاص، صوت لا يتجاهل سياقنا وتاريخنا وواقعنا ولا ينتسب لقضايا «عالمية» دون دافع أصيل. وأن نطور سويًا الحساسية التي تتيح لنا اختيار ما يعنينا من قضايا بناء على نقد واحتكاك حقيقي بواقعنا.ا
هدى: على ذكر صوتنا الخاص وتطوير فهم لخصوصية الواقع المحيط بنا، هناك جزء يتعلق بإدراك احتياجات المشاركين والسياق المحلي. ومن بينها الشعور الجمعي بعدم الجدوى، أو غياب الثقة التي تتيح مساحة للفرد لمشاركة أفكاره، أو غياب الثقة في الآخر التي تفتح مجالًا للتعاون. فإن إدراك هذا النوع من مشكلات التواصل من شأنه أن يطرح حلول مختلفة. وأعتبر هذا من أهم العوامل التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند التفكير في إنشاء مساحات تعليمية أو أي مساحة للتبادل. ا
عمرو: إن عملية التعلم لا يمكن أن تتوقف عند المادة العلمية، لكونها تتطلب شكل كبير من أشكال التواصل، خاصة في السياقات التي نتعامل من خلالها. أعتبر إنشاء مجتمعات فكرة ضرورية، ولا يُمكن إنشائها دون تحقيق تواصل بين أفرادها. ا
عمرو: أرى أنه من الممكن أيضًا إعادة النظر في العلاقات التي تنشأ في السياق التعليمي ومحاولة التغيير فيها. فبدلًا من التمسك بأدوار ثابتة للمشارك والمُحاضِر، يُمكننا أن نكون علاقات أكثر تشعبًا قد تحقق أشكال متنوعة من التبادل. ليس لدي تصور واضح تمامًا، لكن أعتقد أن البداية قد تكون في تحديد هدف مشترك، ومن ثم تكوين مجموعات صغيرة من الأفراد. لا يهم أن تتفق هذه المجموعة على كل شيء، باستثناء الرغبة في خلق دوائر تتحرك بدافع ذاتي نحو التعلم. من الممكن تخيل دوائر من أجيال وممارسات مختلفة تسعى كل منها لتكوين معارف نابعة من احتياج حقيقي. يمكن تخيل أن هذه الدوائر تتقاطع بلا شك، وأن هذا التقاطع سيخلق علاقات مركبة ويتيح تبادل من نوع مختلف. ا
هدى: أتخيل أنه من الممكن أن نتعامل مع عملية التعلُّم الجماعي كجزء أساسي من ممارستنا الفنية. فاذا اعتبرنا أننا مضطرون في كل الأحوال لإنتاج تراكم معرفي إذا أردنا الاستمرار، فيمكننا تخيل شكل جماعي من هذه العملية. على أن نوليه نفس القدر من الاهتمام والالتزام الذي نعطيه لعمليات الإنتاج والبحث عن دعم، دون الاضطرار لإثبات جدواها بشكل مستمر عن طريق إخراج منتج. أفكر هنا في نموذج مثل "الستادي (الدراسة)" الذي يطرحه فريد موتين وستيفانو هارني، وإمكانية تطوير ممارسة تعليمية يجتمع فيها الأفراد ويقررون ما عليهم تعلُّمه. ا
عمرو: أعتقد أن هذا ممكن طبعًا، وممكن ألا نحصر تفكيرنا في المساحة. فالقهوة شأنها شأن الجامعة في غير ساعات الدراسة، تصلح لأن تكون مساحة مناسبة للتعليم والتعلُّم إذا أردنا ذلك. وهو ما يعيدني لما كنت أتخيله عن شكل الدوائر والمجتمعات القائمة على نقل وتبادل المعرفة. لكن يبقى سؤال كيفية تحقيق هذا التصور قائم. بالنسبة لي أعتقد أن كل ما سنطرحه يعود لمناقشة الدافع. ا
يُمكننا قول الكثير عن مشاكل «البرنامج» ونواقصه، لكن فكرة الإعداد في حد ذاتها جذابة. هذا يتيح لنا تخيُّل إمكانية الوصول لمرحلة ما نكون عندها مستعدين لمواجهة الأشياء. والحقيقة أننا لسنا مضطرين للتخلي عنها تمامًا بعد. لكن يجب أن يصاحبها باستمرار السؤال حول كيفية خلق مساحة مشاركة ومناقشة 'حقيقية'. وكيف يمكنها أن تتطور لعملية تعلُّم تستوعب أفكار من سياقات مختلفة، وتتمكن من إنتاج معارف وحلول وأفكار داخل سياقها. وعلى أن تكون هذه الحلول قادرة على التعامل مع الاحتياج للجماعة والأمل بنفس جدية تعاملها مع الاحتياجات المعرفية التقنية والنظرية. وأن تبني نقد حقيقي للوضع بعيدًا عن الإغراق في الشعور بعدم جدوى التحرك، نقد بوسعه أن يقدم فهم حقيقي نبني على أساسه تصورات متنوعة.ا
كيف يُمكن خلق هذه المساحة دون أن يطور العاملين عليها معرفة حقيقية وإدراك كامل لما يواجهونه؟ وكيف يُمكن خلق هذه المعرفة المتراكمة دون محاولات فاشلة تؤدي إلى مراجعات مستمرة للأهداف والآليات؟ فمن السهل تصور أن خطة برنامج يمكنها سد كل الثغرات، وعند التجربة تكتشف مدى بعد تصوراتك عن الحقيقة. من السهل نسبيًا أن تبني نقد مبدأي وبديهي لنموذج البرنامج وتبني على أساسه نماذج مثالية أخرى تحل مشاكله. لكنها لن تتمكن من تحقيق أي شيء دون أن تخضع لاختبار وتغير مستمر يتيح لها إعادة النظر في ماهيتها وموقعها وتأثيرها. ا
هدى ذكري، فنانة بصرية وباحثة في تاريخ الفن من مواليد القاهرة ۱۹۹۳، درست التصوير بكلية الفنون الجميلة، جامعة حلوان وحصلت على البكالوريوس عام ۲۰۱٦، وتعمل حاليًا على الماجستير بقسم تاريخ الفن من الجامعة نفسها. انضمت عام ۲۰۱٦ لمجموعة ستوديوخانة للفنون المعاصرة، وعملت على تصميم وتيسير ثلاثة دورات من برنامج مجلس الطلاب السنوي والمعارض الجماعية الناتجة عنها. تستكشف اهتماماتها بتعليم الفنون وتاريخ الفن المعاصر والترجمة، وتسعى لتطوير ممارسة بينية تنتقل بحرية بين الترجمة بصفتها آلية للتعلُّم والبحث، وبين الكتابة والنص كوسيط
فني.ا
فني.ا
عمرو عامر، فنان ومصمم وقيِّم فني. تخرَّج من كلية التربية النوعية وعمل كفنان ومصمم ثم قيِّم فني ومدير مشروعات. أسس عامر مجموعة ستوديوخانة للفنون المعاصرة عام
٢٠١٢
، وبدأ عام ٢٠١٤ بالعمل على أولى دورات برنامج مجلس الطلاب. انطلقت ممارسات كفنان وقيم فني من منظور بحثي اهتم بتحليل دور الفنان وعمليات الخطاب بداخل العمل الفني، وتركزت رؤيته بشكل جلي على التقاطعات بين الممارسات التعليمية والدور الاجتماعي للفن.ا