كتابة ورسم: أحمد شوقي حسن









في احتجاج مزعوم ضد الذين هم لا يركزون بشكل كافٍ على سلامة الكوكب وما يطرأ عليه من تغيرات مناخية وبيئية قد تقود الإنسانية نحو تهديداً مباشراً؛ تم إلقاء القبض على رجل يرتدي زي سيدة عجوز وهو يقفز من على كرسي متحرك ويحاول تلطيخ زجاج الموناليزا المضاد للرصاص بقطعة من الأيس كريم المستورد خصيصًا من
الفلبين، ذو نكهة ترابية حلوة ولون أرجواني ناصع يجعله مناسب تمامًا للتصوير على انستجرام.ا


ملحوظة: في عام ٢٠١٩ قام متحف اللوفر بتجديد غرفة عرض لوحة الموناليزا وتزويدها بنظام أمني يوفر لها حماية منقطعة النظير، حيث عُرضت اللوحة بداخل علبة زجاجية محكمة الغلق، ومتعددة الطبقات ومضادة لتوهج وانعكاس الضوء والرصاص، علاوة على ذلك فهي مزودة بنظام قياسي للتحكم في المناخ وتحقيق الاستقرار في نسبة الرطوبة وتنقية الهواء داخل العلبة.ا


في تلك اللحظة نجح مرتكب الحادثة أن يخطف أنظار الجميع، بنشره حالة من التوتر والارتباك غمرت كل من في المتحف، فقد فتح في عقولهم نافذة مليئة بالفضول؛ لماذا قام بتلك الفعلة وورط الجميع في هذا السياق؟ إن مثل هذه الأفعال المناهضة للمتحفة حين حدوثها على حين غرة تضع الجمهور إجباريًا في سبيل السعي وراء أسئلة عن موقعهم من المستقبل، فإلى أي مدى يُمكن طرح سؤال عن هذا الأمر في مؤسسة من شأنها صناعة التاريخ؟ ولماذا اختار ذلك الرجل أن يأتي هنا في لحظة حرجة كلحظة الذروة تلك ويفعل فعلته أمام هذا الحشد الهائل من الجمهور، ولم يأتي مثلاً في وقت متأخر عندما ينفض الجميع أو يُغلق المتحف؟ ولماذا اختار مؤسسة كهذه وليس مكان آخر خاص مباشرة بموضوع قضيته عن البيئة والمناخ؟ علمًا بأن المتحف من المؤسسات التي بادرت في القرن الحادي والعشرين على تحويل ممارساتها المهنية وهياكلها البنيوية لتتماشى مع قضية التنمية المستدامة وإشكاليات تغير المناخ. علاوة على ذلك فإن المتاحف حول العالم تعتبر من أبرز المؤسسات التي أطلقت في الآونة الأخيرة نداءات مفتوحة ودعوات تكليف كمساهمة في تمويل وإنتاج مشاريع فنية تدعم قضايا بيئية، ويمكن بسهولة التعرف على ذلك من خلال تصفح مواقعهم الرسمية عبر الإنترنت.ا

إذًا؛ لماذا تستهدف المتاحف بالتحديد من قبل نشطاء يدافعون عن قضايا المناخ والبيئة؟





قبل لحظات من تلك الحادثة كان موقعي في طليعة الصفوف على مسافة قليلة من مرتكبها، كدنا أن نتلامس سويًا من شدة تدافع الجمهور، أخشى أن يقودني القدر إلى حدوث سوء تفاهم قد يورطني معه في شيء ما، لذلك وعلى وجه السرعة فعلت مثلما يفعل الجميع وأخرجت هاتفي المحمول ثم فتحت البث الحي على تطبيق انستجرام، وأعطيته ضغطة البدء في التشغيل. ا

بقيت في هذا الوضع متخشبًا لبضع دقائق حتى أتى رجال أمن المتحف ونجحوا على الفور في إلقاء القبض على ذلك الشخص ثم أخرجوه من المكان، اكتشفت في أثناء وقفتي تلك أن هذه تعتبر تجربتي الأولى في مشاركة البث الحي على مواقع التواصل الاجتماعي. ما أثمن تلك التجربة! ا

كيف لهذه الصدفة أن تقودني إلى إحساس مثير كهذا؛ أشعر وكأنني أقوم بعمل بطولي، كأحد المصورين المستقلين الذين غامروا بحياتهم وسافروا لتغطية حرب فيتنام بهدف نقل الحقيقة خارج سلطة البث التليفزيوني، عندما قامت شركة سوني باختراع أول كاميرا فيديو محمولة (بورتاباك) واتاحتها كسلعة استهلاكية جديدة يسهُل على الأفراد اقتنائها. ا

هكذا تمكنت الملايين حول العالم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي من متابعة حادثة تلطيخ الموناليزا بالآيس كريم في أثناء ارتكابها لحظة بلحظة، وكأنهم معنا هنا داخل المتحف، بل هم بالفعل كذلك! فقد ساهمتُ بإتاحتي لهذا البث الحي على انستجرام في توسيع فضاء المتحف من محيطه المادي، ليمتد ويشمل كل سياق يعمل فيه على هاتف محمول. هكذا تحول العالم بفضلي إلى فضاء متحفي كما لم يُشاهَد من قبل. ا

وبعد انقضاء الحادثة تم إغلاق غرفة عرض الموناليزا على الفور بغرض أعمال الصيانة، ومراجعة نظام الأمن، والكشف عن أي ثغرات يمكن أن تحدث من خلالها أفعال كهذه في وقت لاحق. ثم أعلن المتحف مجددًا عن إعادة افتتاحه لغرفة الموناليزا، التي تسابق من أجلها للحضور كل من يحمل في يده هاتف ذكي ويمكنه مشاركة بث حي للحظة ظهورها للجمهور مرة أخرى. ا

وقبل موعد الافتتاح عقد المتحف مؤتمر صحفي تحت عنوان «موناليزا دائمًا وأبدًا»، ظهر فيه أحد القيِّمين الفنِّيين العاملين في المتحف مرتديًا بدلة سوداء غاية في الأناقة وفي يديه قفازات بيضاء، يمسك بإحداهما ميكروفون متصل بمكبرات الصوت المركزية داخل المتحف، وبدأ يُلقي على جميع الصحفيين خطبة عن تاريخ موناليزا منذ لحظة انتاجها ومرورًا بجميع الحوادث التي مرت عليها وكيف صمدت خلالها؟! حتى وصل بنا إلى لحظتنا هذه التي أتم فيها ساعة كاملة من التحدث المستمر من دون توقف، انتهت بجملة تفخم وجلجل فيها صوته وهو يقول: ا

ا"وتذكروا دائمًا أنكم واقفون في فضاء آمن للغاية... أما الآن أتت اللحظة التي انتظرناها جميعًا، فسوف يتم إزاحة الستار عن موناليزا الجديدة - تحفة ليوناردو دافنشي...؟!” ا





وبالفعل أزيح الستار وتفاجأ الحضور أن موناليزا لم تكن في مكانها خلف الحواجز في صندوقها الزجاجي بل تم تبديلها بيد مبتورة تحمل هاتف ذكي يعرض البث الحي لواقعة تلطيخها بالآيس كريم. ا

في تلك اللحظة أيقنْت أهمية الدور الذي قدمته للعالم، خصوصا عندما اجتمعت دوائر رأس المال التي بفضلها تستديم المتاحف على أن تأخذ قرارًا نهائي باقتنائي وعرضي لأصبح الآن جزءًا لا يتجزأ من منظومة العمل المتحفي، فقد نَجَحَت بالفعل في الوصول إلى اتفاق مع الشخص الذي انتميت إلى جسده، ترتب عليه قرار انفصالي عنه نظير مبلغ مالي مناسب لعملية البتر، قامت بتحديده لجنة من الخبراء في عالم المتاحف، كم أشعر بمساحة مطلقة من الحرية والتفرد؟! فقد أصبحت الآن أول يد على الاطلاق بلا جسد يتم اقتنائها متحفيًا وهي تحمل بين أصابعها هاتف ذكي ينقل البث الحي لأعمال مناهضة للمتاحف. هكذا قدموني إلى العالم. ا

عندما أزيح الستار وُلِدَت لدي نشوة بالغة نحو الشهرة، فقد ملأت صورتي أغلفة المجلات الفنية، وتداولتها صفحات الإنترنت، قطعا أثار ذلك الحدث جدل واسع النطاق، فما من صفحة معنية بالفن وتاريخه على مواقع التواصل الاجتماعي إلا وبها على الأقل ميم يحمل صورتي، فالجمهور يأتي إلى المتحف الآن ليقف في طوابير بالساعات خصيصا لمشاهدة اليد التي تحمل بين أصابعها هاتف ذكي ينقل البث الحي لحادثة تلطيخ الموناليزا بالآيس كريم. ا


• • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • • •


مقطع من حوار صحفي مع اليد التي تحمل بين أصابعها هاتف ذكي ينقل البث الحي للأعمال المناهضة للمتاحف:ا


ا– في رأيك؛ لماذا يختار النشطاء البيئيين مؤسسة المتحف على وجه التحديد لإعلان وتوجيه رسائلهم إلى العالم من خلالها، وليست مؤسسات أخرى ذات صلة كشركات النفط على سبيل المثال؟ أو بطريقة أخرى هل مرتكبو مثل هذه الحوادث يعلمون قيمة الأعمال الفنية التي أقدموا على
محاولات تخريبها؟

"ليس بالضرورة أن يكونوا ضليعون في تاريخ الفن كي يقوموا بارتكاب مثل هذه الأفعال، يكفي أنه معروف لدى الجميع أن المتحف مكان مقدس، لذلك فهو وسيط سحري، يمكن أن يتكاتف من أجله الجميع للدفاع عنه وعن محتوياته، ببساطة؛ فهو مكان يضم تحت مظلته مجموعة من المفاهيم التي لا يمكن للدول أو الشعوب في أغلب الأحيان أن تتخلى عنها كـ(الحضارة والتاريخ والهوية والانتماء والريادة والوجود... وغيرها)، كل ذلك يجعل منه مكانًا مناسبًا للحشد وإطلاق البيانات."

ا– هل تعتقدين من وجهة نظرك أنك انتصرت بالفعل على الموناليزا لمجرد جلوسك مكانها رغم كل شهرتها التاريخية؟

"قطعًا لا! فكلانا ظاهرتين تجلّت فيهما صورة الفن."

ا– ما ذنب عمال النظافة أن يتورطوا هكذا في أعمال إضافية كتنظيف آثار مثل هذه الأفعال المناهضة للمتاحف؟

ا"قبل أن نتطرق إلى أهمية مفهوم العمل وحقوق العمال في هذا السياق، هل تعرف أولًا كيف تعمل دوائر اقتصادات المتاحف؟ وما حجم استفادتها من حدوث تلك الوقائع والأفعال؟" ا

ا– أليست مقارنتك مع موناليزا أمر منصف إليكِ، فأنتِ من دون شك لا تتمتعين بمقدار القيمة الفنية
والتاريخية التي لديها كي تستبدلي بها؟

ا"ماذا؟ القيمة الفنية؟! حقًا أتقصد ما تعنيه؟ فبمجرد إزاحة الستار عن وجودي في المتحف هكذا بدلاً من موناليزا، أصبحت بمثابة إعلان عن فشل الفن في منافسة صورته المؤسسية عند الجمهور، وفي هذا السياق على وجه التحديد أقصد تلك الصورة المؤسسية التي تصنعها المتاحف خلال العقود القليلة الماضية، منذ لحظة تجسيدها في أشكال عدة كفضاءات افتراضية عبر الإنترنت، بصفتها مصنع لإنتاج ملايين من الصور اليومية عن الفن، سواء كانت رسمية أو غير رسمية مثل الصور المسربة من كاميرات المراقبة أو المنشورة رسميًا في وسائل الإعلام أو على منصات التواصل الاجتماعي، فكلاهما شكل من أشكال السيولة التي تنتج عن طريقها عمليات التوسيع المؤسسي والإعلامي لمصطلح الفن، الذي يمكنه أن يمتد ويتوسع ليشمل -بل ويلتهم- كل شيء من حوله حتى الجمهور ذاته." ا

ا– في هذا الخضم من الأفعال التخريبية ضد المتاحف، هل هناك احتمال في حال تزايدها أو ظهورها في أشكال أخرى أن تنجح مجددًا في القضاء على هذا العالم؟

ا "بالعكس تمامًا فتاريخ الفن أثبت أن مثل هذه الأفعال التي ترتكب ضد المتاحف هي أفعال متحفية في حد ذاتها." ا

ا– رغم أن القضاء على التدهور البيئي الذي يشمل قضايا تغير المناخ وغيرها يعتبر حق أصيل من حقوق الإنسان؛ هل أنتِ مع أو ضد ارتكاب مثل هذه الأفعال في المتاحف؟

ا"في الحقيقة أشعر بخلط في السياقات، لأنني عشت طوال حياتي -حتى حدثت واقعة تلطيخ الموناليزا بالآيس كريم ثم عملية البتر من بعدها- كيد يسرى لجسد أتى من سياق يتعامل مع المتاحف كنموذج لبيئة العمل البيروقراطية متعدد الطبقات التي لا يمكن للسماح فيها بدخول الزوار وفي أيديهم أيس كريم وليس هاتف ذكي، فمجرد فكرة العبور والفرجة على الأعمال الفنية وبين أصابعي آيس كريم يمكن أن ينصهر على أرض المتحف أمر أرى فيه امتياز يتمتع به مرتكب تلك الفعلة، لذلك فإن حكمي عليه لن يكون منصفًا له، لأنني في الحقيقة لم يأتي في خاطري أبدًا أنه سيأتي اليوم الذي سوف يمكنني فيه الدخول إلى فضاء متحفي وفي يدي هاتف ينقل البث الحي لشخص يلطخ عمل فني بالآيس كريم من دون الحصول على تصريح بالتصوير." ا

ا– إذًا هل ترى من وجهة نظرك أن مرتكب تلك الفعلة يتمتع بامتياز أو رفاهية للقيام بها؟

ا"نعم ولا! وبين نعم ولا تتفاوت لدى الأشخاص مساحات الوعي بالسياق ومقدار الامتياز." ا

ا– سؤال أخير؛ ماذا حدث للشخص الذي كنتِ تنتمين إليه؟

ا"الشخص نفسه كان هنا في بعثة للعمل، وبعد انفصالنا، وقبل أن يعود إلى موطنه روي قصته لوسائل الإعلام، ومع ازدياد اهتمامهم به، أجرى مقابلات كثيرة وبدأ في جني أموال أكثر من أي وقت مضى. وكلما زاد عدد المقابلات التي أجراها، كلما كانت فرصته للمستقبل أقوى من حياته الماضية - فالجميع هنا لديهم فضول هائل للتعرف على قضية أول يد على الإطلاق تم اقتنائها متحفيًا وهي تحمل بين أصابعها هاتف ذكي ينقل البث الحي لأعمال مناهضة للمتاحف." ا





أحمد شوقي حسن فنان وكاتب ، مواليد ١٩٨٩ بالإسماعيلية، مصر. تدرس ممارساته الفنية المتنوعة تأثير وتأثر الروايات الحالية والتاريخية للفنون على تكوين صورة الفن الرائجة، عن طريق التحقيق في مظاهرها وانتشارها في المجال الفني، من خلال انتاجه للنصوص والمجسمات والفيديوهات والصور الفوتوغرافية والرسوم... وغيرها. يدعو المشاهد إلى استكشاف هذه الروايات المخفية وغير الرسمية في الجاليري والاستوديو والمتحف. أثناء التساؤل عن أدوار القيِّم الفني والفنان والمشاهد على أنها جميعًا متواطئة في الافتراضات المسبقة حول صورة العمل الفني وفضاء عرضه. نشر شوقي حسن مؤخرًا كتابه الأول «متحف الفيديو». حصل شوقي حسن على درجة البكالوريوس من كلية التربية الفنية في جامعة حلوان بالقاهرة عام ٢٠١١. عمل مديراً مشاركاً لمشروع «محاولون» (مجموعة بحثية مكرسة للبحث والتأمل في تاريخ الفن المعاصر في مصر) بين عامي ٢٠١٦ - ٢٠١٧. ا


 🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence: ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories ✦ 🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction ✦  🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate.
🇵🇸We Will Not Stand by in Silence:  ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction  ✦  🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate.