أحمد رفعت




ا «انجرامات على تقويم قمري» هو معرض فردي لرنا النمر، حيث تعرض الاتجاهات والمساحات المختلفة التي أخذتها ممارستها إليها. يمتد المعرض من ١٦ فبراير إلى ٣٠ أبريل ٢٠٢٣ في جاليري تخشينة بمعهد جوته القاهرة.ا


ا«تُفتح الأبواب وتُغلق، تَعكس وتنْعكس، تُحجَب وتُبرَز، تُحبَّر وتُحفَر. تأسِر حركاتها لحظة طويلة عابرة. إنها لحظة تتسم بالجُرح والألم والخوف وتَستحضِر كل من انشغل بمغزى هذا النوع من اللحظات.»ا

ليس عبور الأبواب بالشيء البسيط في كل الأوقات. ربما تعكس اللغة بعضًا من ريبتنا تجاه الأبواب، فقد نمشي آلاف الخطوات ولكن خطوة واحدة فوق عتبة باب تسمى عبورًا. نعبر من خلال الأبواب إلى حيز آخر قد يكون مكانيًا، شعوريًا، روحيًا وأحيانًا زمنيًا. أن بعض الأبواب مصمم ليثير تلك الاحتمالات الكامنة داخلنا، احتمالات استثمرتها العديد من المشاهد السينمائية المحملة بالترقب، والتي ضمت أبوابًا على وشك أن تفتح أو أخرى أغلقت للأبد. يؤطر معرض «انجرامات على تقويم قمري» للفنانة رنا النمر هذه العلاقة الملتبسة بالأبواب والعبور، فلا تؤخذ الأبواب الحقيقية أو المجازية بخفة بل بتأمل وخشية. ا


ضوء أحمر

ينعكس إطار الباب المفتوح على حائط الردهة الضيقة بفعل الضوء الأحمر المتسلل إلى الخارج. يغمرني الضوء قبل الدخول إلى الغرفة، ومع انحسار النور المنعكس على المدخل، يتكشف سمكة وهو تجهيز مكون من فيديو وكتيب صور. أثناء إقامتها الفنية في ألمانيا، وفي مرسمه المتقدة حوائطه باللون الأحمر، تعرفت رنا على سيرة الفنان الألماني الراحل روبرت جايجر، والذي ذهب رغمًا عنه لصفوف القتال على الجبهة الألمانية الروسية مدونًا يومياته، كما يقال أنه علم نفسه الرسم في تلك الفترة. ومن هذه السيرة المختصرة واستحضارًا للأحمر على حائط المرسم تنسج رنا حكاية سمكة؛ المخلوق المولود من الجدار الأحمر. في حكاية رنا، انتقلت بذرة الأحمر الذي يغطي حائط مرسمه إلى مفكرته التي احتفظ بها أيام الحرب، ومنها ولدت على الجدار من جديد. من هذا العنف المترسب عبر السنوات، أتى سمكة ليعطي للمستتر شكلًا ووجودًا ماديًا، كمخلوق تؤرخ له صور فوتوغرافية تعيش بين ضفتي كتاب. ا

تحمل الحيوانات في تراث الحكايات أدوارًا عديدة، ومنها الإشارة إلى ما هو مسكوت عنه أو ما لم يجد طريقه للصياغة بعد على الرغم من وجوده المادي والمحسوس1. بدأت رنا ممارستها الفنية كمصورة فوتوغرافية وحاولت من خلال صورها البحث عما يتدخل مع ما هو عادي ويومي ليرينا الاستثنائي فيه أو الإشارة إلى التناقضات التي يحملها واقع يدعي الانسيابية والاتساق أو أماكن ولحظات تفتح أفق تأويلي جديد. أما ممارستها الحالية فتأخذ من الفوتوغرافيا أداة تسعى من خلالها «إلى المرور لأبعاد وأزمنة موازية». قد نستطيع تتبع هذا الخيط في  داخل وخارج الاتصال (رقم٥) هي ليست مجرد صورة في إطار ولكنها تضم نصوص غير مكتملة مع بعض الرسوم أيضًا. على الرغم من الصلابة والجدية التي يضيفها الإطار الخشبي السميك والزجاج، ولكنها تشبه التعويذة للاتصال مع بعد آخر كامن في هذه اللحظة التي نتأمل فيها العمل. داخل وخارج الاتصال (رقم٥) هي النسخة الخامسة من مشروع ممتد منذ ٢٠١٤ يضم «نصوص وصور تتمعن في مادتها المطبوعة أو المنسوخة وفي وجودها ذاته.» ا


انجرامات على تقويم قمري، تصوير: علي زرعي


حطب مختزن للعنف

أخرج من الغرفة الحمراء متأملًا ظلي على جدار الردهة، اتجه إلى الغرفة الأخرى والأخيرة حيث تقبع أغلب أعمال المعرض. يحمل الحائط على يسار الباب النص العام للمعرض وعلى الجانب الآخر من الغرفة يقبع لوحًا خشبيًا مستند إلى الحائط عليه فينيلًا مطبوعًا. مازلنا في ألمانيا الحرب العالمية الثانية، حيث اهدى فنان الرسم والحفر السريالي إدجار إنده ابنه في عيد ميلاده العاشر مجموعة من الرسومات لدولابه الخشبي. تحمل الرسومات طابعًا مزدوجًا حيث تمثل مشاهد حوادث عنيفة تحدث لأشخاص على خلفية أماكن ذات جمال طبيعي خلاب. تقف تلك الرسومات الآن شاهدة على حلول كارثة على مكان هاديء فتغير من كينونته. هل أراد الفنان إرضاء ذوق الأطفال المحب للشعور بالخطر أم رغبةً في الهائه عن كارثة أكبر تدور في البلاد في الأثناء وتتخطى بشاعتها الكوارث الطبيعية. يقف الباب كشاهد آخر عن ترسب العنف حولنا فيما نصنعه بوعي أو من دون. ا

في الفيديو المعروض في نفس الغرفة، يتقابل نسقان مختلفان من النمو والبقاء؛ الحديقة المصممة والغابة البرية. يتتبع الفيديو مشروع أهلي لمكتبة عامة في أرض قرر صاحبها زراعة جزء منها وترك الجزء آخر لتسترده الطبيعة. تحتضن تلك الغابة البرية الصغيرة المكتبة المفتوحة. قد نرى ان المكتبة اختارت الانزواء في الغابة ولكن الفيديو يقترح بأن هناك أنواع من الخبرة والإدراك تستطيع المكتبة تعلمها من الغابة الصغيرة. من ها الموقع أيضًا، يصبح تأمل فعل القراءة نفسه في الفيديو مثيرًا، وكيف تخلق النصوص أبوابًا في بعض الأحيان. ا




أكثر ما يأخذ الانتباه في الغرفة مكعب من الحطب والمحفور عليه بشكل يبدو عشوائي. مذكرةً بخدوش التخت المدرسية، تثير النقوش شعور بالألفة والإزعاج في ذات الوقت. يقف المكعب على عمود وقاعدة معدن وهو بذلك قابل للدوران ويدعوك للمسه وتحريكه. «للحطبِ إلمامٌ عضوي ومادي بمعارف التحريك والتنظيم والتشبيك، سواء من خلال تفرعاته كأغصان للأشجار أو من خلال شبكات دعم جذورِه الموسعة في باطن الأرض». يذهب النص والعمل بأنه يمكننا تصور الحطب والأشجار كبنية للتفكير، لا نراها فقط بل نرى من خلالها الأشياء، هي «... شبكة مؤسِسة ولكنها قابعة في الخلفية، تحمل الوقائع والأحداث الجارية فوقَها.» يتناسب هذا مع انطباع أوجه المكعب المختلفة على الورق. يستخدم النص المصاحب مفاهيم فوتوغرافية مثل «البوزيتيف» كإشارة للمكعب المحفور و«نيجاتيف» في إشارة إلى الصور المطبوعة المعلقة بجانبه. ا

ربما يجدر الإشارة هنا إلى أن تلك الصور لم تأتي من حساسية الورق إلى الضوء وعملية التحميض. لكن الصورة في العمل أتت نتاج تلامس مباشر. ليس هناك أي معلومات في هذه الصورة ولكن ذلك لا يعني بالضرورة إنها لا تحمل أثرًا لمعرفة من نوع آخر. اقرأ وصف المكعب بالبوزيتيف كإشارة للفعل الجماعي القائم على الممارسة والانخراط مع الواقع المادي. لا يتدلى المكعب من الأعلى أو من يوتوبيا الأحلام الجماعية ولكنه متصل ومستند مباشرة بالأرض من خلال وجهه الوحيد الخفي الذي لا نراه. تلك الممارسة المتصلة بمحيطها هي الطريق إلى احتمالات لا نهائية نرى بعض منها في الصور المطبوعة والمعلقة بجانب المكعب. ا

يلمس المكعب الورق لتنطبع الخطوط المحفورة عليه. لا تمثل تلك الصور المطبوعة أي شيئًا بالتحديد غير أن هذا التلامس قد غير منها إلى الأبد، فقد أصبحت نسخة نيجاتيف من أحد أوجه الحطب. هذه الصورة التي أنتجتها الممارسة والفعل قادرة على التواصل والتفاوض مع بقية الاحتمالات الكامنة التي أثمر عنها الفعل (المكعب/الحفر). تقف الصور بجانب بعضها البعض لتقدم أفقًا لا نهائيًا من الاحتمالات. مثل تلك الصور المعلقة، تنطبع الذكريات على خلايا مخنا، لا تختزن الانجرامات معلومات الذكرى ولكنها تنطبع بها فتصبح هي ذاتها جزء من ذكرى ما في عقلنا. تٌستدعى تلك الانجرامات في تكوينات مختلفة في لحظات الاستدعاء مخلفة عدد لا نهائي من الاحتمالات. ا

يبحث «انجرامات على تقويم قمري» في الواقع وخارجه عن سبل للتعلم من نظم معرفية مختلفة حولنا قد تدلنا على سبل للمقاومة والتغيير. يحاول المعرض الاتصال مع النبات والحطب والكائنات والألوان في رغبة لفتح هذا الواقع الرتيب الذي نعيشه على احتمالات أخرى. قد يتطلب ذلك الحفر في الحطب وإدراك جديد للعنف ودلالاته، ولكن ذلك ضروري إذا أردنا أن نهيء للحظة تزورنا فيها شهب الذكرى مرة أخرى فيتجسد ما لم نكن نستطيع حتى صياغته قبل أن نمارسه. ا

الهوامش
رقم 1: بنيامين عن الحيوانات في كتابات كافكا



أحمد رفعت، باحث ومنسق فني ومبرمج أفلام ومهتم بالثقافة البصرية المحلية ونظيرتها في السياقات الشبيهة. عمل كجزء من الفريق التنسيقي لمركز الصورة المعاصرة حتى ديسمبر ٢٠٢٢. يقيم رفعت في القاهرة ويكتب النقد الفني للمطبوعات والمنصات الإلكترونية.ا


 🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence: ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories ✦ 🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction ✦ 🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists
🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence:  ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction  ✦  🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists  ✦