عبدالرحمن حسين




ا «بَحْثاً عَن مَنظور» هو معرض جماعي يضم أعمال أحمد صالح، أكو-و، أسماء جاما، كيارا كارتوتشيا، إيلينا بيسيرنا، فاج تيبس، جورج مورايتيس، إسلام شبانة، المجتمع الكامن، لودوفيكا جوارنييري، محمود الصفدي، ماريا إيليا كاستروني، ماريا سيديري، مارك لطفي، محمد عادل دسوقي، موناي دي بولا أنتونيس، ناتاسا دوراد، نيجا تومشيتش، نينا كورتيلا، أمنية صبري، أونور شيمن، بوست ديزاستر، سام كاربينيا، سارة فخري إسماعيل، ستيلا ايونيدو، ياسمين حسين، زينب كاسيرسي، زوي لو فويه. قيم المعرض مروة بن حليم، ورافق المعرض برنامج عام من النقاشات المفتوحة والجولات وعروض حية ومؤتمرات من ١ يونيو حتى ٨ يونيو ٢٠٢٣ في بساريا للفنون والمعهد الفرنسي في مصر و٦ باب شرق.ا ا


لطالما كنت أشعر بأن اشتباك الأعمال الفنية مع مفاهيم المدينة والتاريخ والتراث والهوية بمثابة الإنتحار. حيث عند الاشتباك الفني مع تواريخ وسياقات شديدة التركيب، يقع على كاهله الفنان(ه) عبء دائم في البحث عن وايجاد المنهج المناسب الذي يقدم له مساحة أكثر نقدية وأوسع للتعبير. فيجد الفنان نفسه مستغرقاً في الانعكاس على ذاته قبل الانخراط في ممارسته(ا) الفنية. تتفاقم تلك التعقيدات المركبة عند التفكير في الإسكندرية (عنوان الإقامة الفنية ذاته)، فهي كمدينة في حد ذاتها في صراع هويات دائم ومستمر.ا

تم تنسيق معرض «بحثًا عن منظور» من قبل القيمة مروة بن حليم ليضم أعمال المشاركين والمشاركات في إقامتين فنيتين هما «كارڤان: التفكير مع الإسكندرية» و«مدرسة الذاكرة الصوتية» مع بعض الفنانين الآخرين المدعوين خصيصًا للمشاركة في المعرض. تلك الإقامات والنتائج الفنية هن جزء من مشروع «الإسكندرية: (إعادة) تنشيط التخيلات الحضرية المشتركة»، بتمويل من برنامج أوروبا الإبداعية التابع للإتحاد الأوروبي. ا



ينقسم المعرض إلى ثلاث قاعات عرض مختلفة في وسط المدينة، والمسافة بين كل من القاعات هي خمس دقائق مشيًا. المدينة كلمة مفتاحية ومتكررة في المعرض سواء بالحضور أو بالغياب في الأعمال الفنية المعروضة. بالتجول بين قاعات العرض الثلاث يسهل ملاحظة قصدية التجول في المدينة. ولكن سرعان ما تحول ذلك التجول –أشد الممارسات اليومية في بداهته– لممارسة فنية كأني أشاهد المدينة من نافذة كارڤان مغلق تتحول فيها وسط المدينة لقاعة عرض مفتوحة وتتحول الشوارع لمشهد أتجول فيها، وتتحول الأكشاك والمحلات الي بناءات مركبة فى الفضاء لأشعر بقوة وكأني على وشك أن ألمس بيدي أثر التحول العمراني الطبقى. بينما أتوقف في بعض النقاط –قاعات العرض– لألتقط مطبوعة أو اشاهد تجمع فيديوهات او اسمع تركيبات صوتية… ا

أثناء تلك الوقفات الثلاث استطعت أن أرى ثيمات وخيوطاً تربط الأعمال مثل: الجغرافيا والأطلال والإنتماء. تستثار خلال تلك الحركة المحكومة بعض الأسئلة عن هوية المدينة والملكية والمواطنة والهيمنة لتجد الإجابة على سؤال: من المُهيمن هنا؟ مجزء ومتشظي كقطع الأحجية في واجهات المبانى ذات الطراز الإيطالي والسيارات الصينية والتيشرتات الرياضية الأمريكية التي يرتديها المارة والشعارات الموجودة على ملصق/إعلان المعرض. تلك الأسئلة المستثارة شجعتني على أن أري المعرض مساحة أكثر تعقيدا باعتبارها مساحة فنية للتفاوض عن خيار آخر للمدينة. ا

صمم المعرض ليبدأ المشاهد جولته من مساحة «٦ باب شرق» حيث يجد نفسه فور دخوله للمعرض وسط بناء صوتي في الفراغ مؤكداً على الشعور بدخول تلك المساحة. قابل وجود تلك البناءات الصوتية المركبة في «المركز الثقافي الفرنسي» قاعة العرض الثالثة أيضاً وبشكل أقل صراحة في «بساريا» قاعة العرض الثانية نتيجة سهولة سماع الصوت الصادر من أعمال الفيديو والأفلام التي تستخدم مكبرات الصوت. هذا الاستغلال للصوت خلق شعوراً بالمساحة: مساحة تفاوض داخل المدينة، للتفكير في وعن المدينة. ا

في «٦ باب شرق» لفت نظري عمل لمارك لطفي قيد التطوير، على الرغم من أنه لأول وهلة يبدو بعيداً وغير منسجماً مع المعرض: فالمدينة والإسكندرية والإسكندر ليسوا من اهتمامات عالم الفيلم، لكن هناك ارتباط آخر أكثر تجرداً يربطه مع المعرض. الفيلم يشتبك مع مفهوم التجول/الترحال والطقوس. أحياناً طقوس دينية، وأحياناً طقوس اجتماعية، وفي أحيان أخرى طقوس صناعة الافلام نفسها. يستكشف مارك تلك المساحة الضبابية الخيالية في أثر الشعائر الدينية على حياة أفراد أسرة قبطية ويبني علاقة مثيرة بين المُقدس والهزلي. نرى في بداية الفيلم مونتاج متوازي بين أفراد اسرة متيمين بارتداء الاقنعة ليس بشكل احتفالي فقط لكن كممارسة عائلية ليتحول القناع لشعار للعائلة. هم لا يحاولون الاختفاء خلفها بل ليكونوا هم الأقنعة ويخلقوا صلة القرابة بين أرواحهم البشرية مع أرواح أخرى كشعوب «دوجون» في غرب ووسط افريقيا ووشعب «الأنيشينابي» في امريكا الشمالية. ويتتبع الفيلم بشكل غير خطي رحلة أحد أفراد العائلة للحج في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لنكتشف كيف تتحول تلك الرحلة الدينية شديدة القدسية إلى رحلة سياسية يتخللها لحظات هزلية تؤكد على واقعيتها. من خلال استخدام جماليات شرائط الفيديو العائلية، تخلق الصورة شعوراً غرائبياً بوجود ذاتٌ أخرى … غالباً خلف الكاميرا، أو حتى بشكل أكبر خلف هذا العالم المادي. ا

في «بساريا» أثار فضولي عمل سارة فخري اسماعيل وهو فيديو مركب مكون من شاشتين. تستكشف الفنانة –من منظور بيئي نسوي– حيوات الأشياء خاصة تحت هيمنة الإستغلال البشري وتركز على الروحانية الكامنة في الأشياء وعن وكالتها لتغوص في علاقة الصانع بالمصنوع. نشاهد في الفيديو تمثال «أم الهول»، مستقرة بجوار تمثال «الإسكندر الأكبر» في شارع أبو قير بالإسكندرية وهي تحاول التفكير في ذاتها وحضورها. «أم الهول» التي يرجع أصلها لحجر طبيعي تم نقله من بيئته الصحراوية لتحويله لتمثال ليكتسب الكثير من الإشارات والمعاني بجوار العديد من التماثيل الأخرى ليمثل ويحيل لشئ آخر غير ذاته الحجرية. بعد ذلك، يتم إلقاء «أم الهول» في البحر الأبيض لتتعرض لعوامل التعرية البحرية وتفقد جزء كبير من ملامحها وتقترب من حالتها الأولية كحجر، فيتم انتشالها مرة أخرى ووضعها بجوار تمثال «الإسكندر الأكبر» وتتحول لنصب تذكاري. تُسائل سارة مفهوم وكالة الأشياء، فهي تقدم الأشياء كفاعل وشريك مساوٍ للإنسان في عالم أكبر غير مركزي، يكون فيه الإنسان فيه جزء من التكوين الكُلي. أثناء مشاهدتي للفيلم استغرقت في محاولة فهم الأركيولوجيا كمجال وتخصص استعماري الأصل يخلق إشكاليتين رئيسيتين هما: خلق سردية تاريخية معينة للأشياء، أو بقول آخر تخلق سردية الحضارة والتقدم بمفهومها الحداثي الغربي. الإشكالية الثانية –التي استطرد فيها أكثر لاحقاً– هي إنتاج التراث وإمداد الدولة الحديثة والمؤسسات الأركيولوجية بالمواد اللازمة لترسيخ نظام التثمين الذي بدوره يسرد سردية واحدة وتاريخ واحد. الأخيرة هي أكثر الجوانب اشكالية عند التفكير في الاسكندرية. ا

في نفس المساحة الاستعارية والتى تتسم بطابع أكثر تأملية وتنتقل من الميكرو للماكرو بسلاسة شديدة، يمكن أن نرى عمل أمنية صبري عن النباتات في قاعة العرض الثالثة في «المركز الثقافي الفرنسي». يتكون العمل من ثلاث صور لنباتات يجاورهم نص. يحث النص المشاهد على تأمل عالم النباتات في الصور وحساسية النباتات للضوء واستراتيجياتها في التغير والتحول من طور إلى طور. ا



في مساحة منقبضة للتفاوض والارتجال، أطالب بانكماش اخر، كيف نقدر خسائر الطور الجديد، أو كيف نستشف ما اندثر سابقاً على حساب ما أعيد كتابته؟

يتجلى العمل الخفي للأشجار في نظام الجذور، تعقيده، وشبكات اتصالة، كم من المرات عليها أن تتحمل القطع، وبدأ العمل من جديد؟ من منهم سيصمد أمام القطع الظاهري التام؟ بينما يظل حياً بشكل كامل، مترقباً الظروف المناسبة لبدء دورة أخرى من جديد؟

جزء من النص المصاحب لعمل أمنية صبري—


كان معرض «بحثاً عن منظور» محاولة للتفكير في سياسات الهيمنة الصادرة من المدينة وهنا لا أقصد مدينة الإسكندرية فحسب: فالإسكندرية مدينة متوفية على أيةً حال (والضرب في الميت حرام) ومحاولات إحيائها ما هي إلا محاولات لإحياء التراث، بل أقصد هنا مفهوم المدينة الأكثر تجريداً … فمحاولة البحث عن مساحات أخرى للمقاومة والتفاوض واكتشاف خيالات مغايرة وتواريخ أخرى ترتبط بما هو مجهري ومجرد واحياناً غير إنساني عبر تلك المساحات الفنية وفي ظل البنية التحتية الثقافية المهيمن عليها هو ما يمكن أن يساعدنا في فهم ذواتنا كأفراد ليس من خلال تقديم الوكالة للــ«آخر» بل من خلال الانعكاس وتفكيك فهمنا كأفراد لكل ماهو «آخر».ا




بخروجي من المعرض ترسخت بعض الأسئلة في ذهني التي لا أبحث لها عن إجابات بل لمحاولة التخيل والتفكير في المستقبل: متى سنتحرر من العمرانية ليكون الطرح اللاعمراني طرحاً غير طوباوياً وبرجماتياً؟ هل يمكننا أن نرى في موت المدينة حياة أخرى وطور آخر لمستقبلنا كأفراد؟ كيف نغتال التراث لنحرره من قدسيته حتى يمكننا أن نرى تمثال الإسكندر وأم الهول مجرد ركاماً وحجارة غير فاقدة للقيمة، وتنتقل ملكية التاريخ من المؤسسات للأفراد؟




عبدالرحمن حسين فنان متعدد الوسائط وصانع أفلام من مواليد ١٩٩٨. تستكشف أعمالة مفهوم الذاتية العالمية وتبحث عن المتشارك والشائع في العام والجماهيري في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة.ا


 🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence: ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories ✦ 🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction ✦ 🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists
🇵🇸 We Will Not Stand by in Silence:  ︎︎︎ Read the Statement & Add your Name to the Signatories🇵🇸 Read the latest text by Karim Kattan, At the Threshold of Humanity: Gaza is not an Abstraction  ✦  🇵🇸 Visit our page Resources for Palestine for a compilation of texts, films, podcasts, statements and ways to donate. Arab Artists Now: A Tale Makes a Turn: Feminist Legacies Open Call for Artists  ✦